إن النبي (ص)، رَبىَّ الشباب على التربية المتوازنة القائمة على الموازنة بين العاطفة والعقل، الروح والجسد، العلم والعمل. وهذا التوازن الدقيق هو المنهج السليم في التربية، بَيْدَ أن طغيان جانب على حساب الجانب الآخر، سيؤدي إلى خللٍ في بناء الذات، وانحراف عن منهج الإسلام.
وقد كان النبي (ص)، يقف ضد كل توجه غير صحيح، أو تفكير خاطئ، أو ممارسة سلبية ؛ من ذلك ما روي أن النبي (ص)، جلس للناس ووصف يوم القيامة، ولم يزدهم على التخويف، فرق الناس وبكوا، فاجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل، ولا يقربوا النساء ولا الطيب، ويلبسوا المسوح (1)، و يرفضوا الدنيا، ويسيحوا في الأرض، ويترهبوا ويخصوا المذاكير، فبلغ ذلك النبي (ص)،، فأتى منزل عثمان فلم يجده، فقال لامرأته: " أ حق ما بلغني؟ " فكرهت أن يكذب رسول الله (ص)،، وأن تبتدئ على زوجها فقالت: يا رسول الله، إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك، فانصرف رسول الله (ص)،، وأتى عثمان منزله فأخبرته زوجته بذلك، فأتى هو و أصحابه إلى النبي (ص)،، فقال: " ألم أنبأ أنكم اتفقتم؟ " فقالوا: ما أ ردنا إلا الخير. فقال (ص)،: " إني لم أؤمر بذلك، ثم قال: إن لانفسكم عليكم حقا، فصوموا وافطروا، وقوموا وناموا، فإني أصوم وأفطر، و أقوم وأنام، وآكل اللحم والدسم، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني " ثم جمع الناس وخطبهم، وقال: " ما بال قوم حرموا النساء والطيب والنوم وشهوات الدنيا ! وأما أنا فلست آمركم أن تكونوا قسسة ورهبانا، إنه ليس في ديني ترك النساء واللحم، واتخاذ الصوامع، إن سياحة أمتي في الصوم، ورهبانيتها الجهاد، واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وحجوا واعتمروا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا شهر رمضان، واستقيموا يستقم لكم، فإنما هلك من قبلكم بالتشديد، شددوا على أ نفسهم فشدد الله عليهم، فأولئك بقاياهم في الديارات(2) والصوامع" (3)
من خلال هذه الرواية نستنتج أن النبي (ص)،، قد رفض بقوة التوجه الخاطئ نحو الرهبانية، وترك الطيبات، وأوضح بكل جلاء أنه ليس في الإسلام رهبانية، بمعنى الانعزال عن الدنيا، وترك الزواج، وعدم استخدام الطيب..... إلخ. وإنما الإسلام يدعو إلى التوازن بين متطلبات الجسم ولوازم الروح، والإنسان كما يحتاج لإشباع غرائزه وشهواته المادية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ومنكح، يحتاج كذلك لإشباع ميوله ورغباته المعنوية ؛ وأي طغيان لجانب على حساب الآخر سيؤدي إلى خلل في الشخصية، وانحراف عن منهج الإسلام.
وهكذا ربَّى النبي (ص)، أصحابه على التوازن بين متطلبات الجسم، ومستلزمات الروح.
وفي هذا العصر حيث طغت المادية فيه على كل شئ، وأصبح شعار الفلسفة المادية الحديثة هو التركيز على كل ما هو مادي، وتجاهل كل ما هو معنوي وروحي.... يحتاج كل شاب أن ينتبه إلى ذاته وأن يسعى لتحصيل الكمالات الروحية، وهذا يتطلب مجاهدة النفس، والتدرب على ممارسة الرياضة الروحية، وترويض الذات على سلوك طريق الحق والخير والصلاح.
وليكن شعارنا قول الله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)
تعامل الرسول (ص)، برفق مع الشباب، وهذا مما زاد في إعجاب الشباب بالنبي (ص)،، والتفافهم حوله، وقد مدح القرآن الكريم تعامل النبي (ص)، مع الناس باللين والرفق، يقول تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)(5)
وقدكان النبي (ص)، يحث على الرفق، فقد روي عنه (ص)، قوله: " إن الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه "(6) وعنه (ص)، أيضاً: " إياكم والتعمق في الدين، فإن الله قد جعله سهلاً، فخذوا منه ما تطيقون، فإن الله يحب ما دام من عمل صالح، وإن كان يسيراً "(7).
والمطلع على سيرة النبي (ص)، يجد الكثير من الأمثلة التي تدل على رفقه(ص)، بالشباب، نذكر من ذلك مايلي:
1-عن أنس قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه فإن كان غائبا دعا له، وإن كان شاهدا زاره، وإن كان مريضا عاده(
.
2 - عن ابن عباس قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا حدث الحديث أو سئل عن الامر كرره ثلاثا ليفهم ويفهم عنه (9)
3 ـ روى عن زيد بن ثابت قال: كنا إذا جلسنا إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) إن أخذنا في حديث في ذكر الآخرة أخذ معنا، وإن أخذنا في ذكر الدنيا أخذ معنا، وإن أخذنا في ذكر الطعام والشراب أخذ معنا، فكل هذا اُحدثكم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(10).
4- عن أبي الحميساء قال: تابعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن يبعث فواعدته مكانا فنسيته يومي والغد فأتيته اليوم الثالث، فقال
(عليه السلام): يا فتى لقد شققت علي، أنا هاهنا منذ ثلاثة أيام(11).
5- عن جرير بن عبد الله أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل بعض بيوته فامتلأ البيت، ودخل جرير فقعد خارج البيت، فأبصره النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) فأخذ ثوبه فلفه ورمى به إليه وقال: اجلس على هذا، فأخذه جرير فوضعه على وجهه وقبله(12).
6- عن سلمان الفارسي قال: دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو متكئ على وسادة فألقاها إلي، ثم قال: يا سلمان ما من مسلم دخل على أخيه المسلم فيلقي له الوسادة إكراما له إلا غفر الله له(13).
من هذه النماذج من سيرة النبي (ص)، يتضح لنا رفق رسول الله (ص)، بالشباب، وتعامله معهم بكل لطف وليونة، وهذا من أسباب نجاح الدعوة، واستقطاب الشباب لرسالة الإسلام. وهذا مايجب أن يتصف به الدعاة والقادة والعلماء إذا ما أرادوا استقطاب الشباب، والتأثير فيهم، وكسبهم نحو التدين، ومنهج الإسلام.
3ـ الثناء على الشباب:
للثناء تأثير كبير على النفوس، وبالخصوص نفوس الشباب، ولذلك كان النبي (ص)، كثيراً ما يثني على الشباب المؤمن ؛ فقد روي عن النبي(ص)، قوله: " ما من شاب يدع لله الدنيا ولهوها، وأهر
م شبابه في طاعة الله، إلا أعطاه الله أجر اثنين وسبعين صديقاً "(14) وعنه(ص)، أيضاً أنه قال: " إن أحب الخلائق إلى الله عز وجل شاب حدث السن في صورة حسنة جعل شبابه وجماله لله وفي طاعته، ذلك الذي يباهي به الرحمن ملائكته، يقول: هذا عبدي حقاً "(15) وقال (ص)، أيضاً: " فضل الشاب العابد الذي تعبد في صباه على الشيخ الذي تعبد بعدما كبرت سنه كفضل المرسلين على سائر الناس "(16)
وقد كان لثناء الرسول (ص)، على الشباب دور مهم ومؤثر في كسب المزيد منهم، والتفافهم حول قيادة النبي (ص)،، وهذا ما جعل للشباب دور فاعل في تقدم الدعوة، ونشر رسالة الإسلام إلى مختلف المناطق. فالشباب هم عماد أي تقدم، وسر نهضة الأمم، وقوة أي مجتمع ؛ لأنهم في مرحلة القوة، والقدرة على العطاء والإنتاج، والاستعداد للتضحية والفداء، وحب المغامرة، وتوكيد الشخصية.
وهذا ما يجب أن يقوم به أي قائد أو مصلح أو زعيم يسعى نحو التغيير والإصلاح، إذ يجب كسب الشباب، والعمل على إقناعهم لخدمة الإسلام، والمساهمة في تقدم المجتمع والأمة
من خلال تعامل النبي (ص)، الحكيم مع الشباب استطاع أن يربي جيلاً مؤمناً وملتزماً بتعاليم وقيم الإسلام، وكان لهذه الطليعة المؤمنة ـ فيما بعد ـ دور مهم ومؤثر في التبليغ للإسلام، ونشر مفاهيمه وقيمه ومثله.
وهكذا، يجب على كل قائد ومصلح وزعيم أن يعمل على كسب الشباب، وتوظيف طاقاتهم الخلاقة فيما يخدم المجتمع والأمة، واستثمار مواهبهم الإبداعية في التطوير والتقدم ؛ كما عمل الرسول محمد (ص)، مع الشباب، فرسول الله (ص)، هو القدوة والأسوة، كما قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)(18)
ومن الضروري العمل بجد وإخلاص من أجل استقطاب الشباب نحو التدين، وإنماء القيم الأخلاقية لديهم، وتقوية البنية الثقافية عندهم ؛ وتزداد المسؤولية عندما نعلم بما يواجهه شباب اليوم من حملات موجهة ومخططة من قبل وسائل الإعلام الفاسد، وشبكات الفساد والإفساد، ومافيا المسكرات والمخدرات.. وكلها تهدف إلى إفساد الشباب المسلم، وإبعاده عن دينه وقيمه وأخلاقه، ونشر التحلل الأخلاقي، والميوعة السلوكية لدى جيل الشباب.
إن على كل قادر من العلماء والمصلحين والمفكرين وغيرهم العمل بكل ما يمكن من أجل الاهتمام بقضايا الشباب، والمساهمة في حل مشكلاتهم، والعمل على استقطابهم نحو التدين، واستثمار مواهبهم وقدراتهم في عملية البناء الحضاري للأمة